batolali

شارك على مواقع التواصل

أسدل الليل ستاره ولم تعد مي إلى منزلها وهذا ما أثار قلق والدتها التي خشيت أن يكون مكروها أصاب ابنتها الحبيبة.

زفرت "إيمان" بيأس وهي تتطلع إلى والدتها التي نهش القلق قلبها وقالت:

-"الوضع كما هو ... لا تجيب على هاتفها".

مر بعض الوقت قبل أن تعود مي إلى منزلها لتستقبلها والدتها بلهفة:

-"لماذا تأخرتِ؟ ولمَ لا تجيبين على هاتفك؟"

أجابتها مي وجبينها يتصبب عرقا:

-"كان يوجد أمامي الكثير من العمل ولم أنتبه للهاتف  لأنني قمت بضبطه ليصبح في وضع صامت".

وها هي تكذب على والدتها للمرة الثانية ولكنها مضطرة لذلك لأن تلك المشكلة ستؤثر بالسلب على وضع والدتها الصحي.

تدخلت إيمان في الحديث حتى تلطف الأجواء وخاصة بعدما رأت ملامح والدتها المتجهمة:

-"حسنا أمي ... لا يوجد داعي للغضب الآن ... المهم أنها عادت لنا بخير ولم يصبها أي مكروه".

جلست إيمان برفقتهما وتحدثت معهما في أمور شتى ثم غادرت وعادت إلى منزل زوجها.

-"اذهبي إلى الحمام واغسلي وجهك وأنا سأنهض وأجهز لكِ العشاء لأنكِ لم تأكلي أي شيء منذ الصباح".

نهضت والدة مي لتجهز العشاء وتركتها شاردة فيما حدث معها طوال اليوم ... لم يكن الأمر سهل كما كانت تعتقد فقد أجرى معها التحقيق أحد الضباط وسألها الكثير من الأسئلة لأنهم كانوا يريدون التأكد من كل كلمة تقولها.

-"وكيف علمتِ أن هذا الرجل هو أحد عملاء الموساد؟"

سألها الضابط بملامح جادة لتجيبه بتوتر:

-"شعرت بذلك عندما رأيته وتأكدت من الأمر عندما طلب منِّي بعض المعلومات التي تتعلق بنشاطات الهيئة غير المعلنة وتلك المعلومات لا تهم سوى أعداء الوطن وعلى رأسهم الإسرائيليون ، وأخبرني أنه سيفضح أمري إذا لم أعطه تلك المعلومات".

سألها الضابط باهتمام وحزم:

-"فضيحة ماذا؟! بماذا يبتزك الإسرائيليون؟"

حاولت مي المراوغة والتهرب من الإجابة بل ووصل بها الأمر أن تعدل عن الحديث حتى يعفيها من الجواب ولكنها أيقنت أنه لا يوجد مخرج أمامها من هذا المأزق بعدما أعاد سؤاله مرة أخرى بتصميم أكبر وهو يكاد يصرخ في وجهها:

-"أخبريني ... ما الذي يمسكه عليكِ الموساد حتى تخافين منهم إلى تلك الدرجة؟"

استسلمت "مي" في النهاية وبدأت تسرد على مسامعه ما حدث لها قبل سنوات وكيف قتلت زوجها وتخلصت منه بعدما أرادها أن ترتكب الرذيلة وحاول إجبارها على قضاء ليلة حمراء برفقة شريكه ... لم تستطع أن تكمل الحديث عما أصابها في تلك الليلة المشؤومة فهبت واقفة وأنفاسها تكاد تخنقها ووقفت بجوار النافذة وتركت نسمات الهواء العليل تداعب وجهها وبعد انتهاء التحقيق الذي استمر لعدة ساعات أخبرها الضابط بالخطة وبما عليها فعله وكيف ستتعامل مع رجال الموساد.

في صباح اليوم التالي وردتها رساله من هذا المبتز يطلب منها أن تجلب له المعلومات التي طلبها وفي أسرع وقت ممكن ... تمتمت بحسم وهي تنظر إلى الملف الذي تمسكه بيدها:

-"وأخيرا حانت اللحظة التي سأتخلص فيها منك أيها الحقير".

أبلغت ضابط المخابرات بالأمر وأخبرته بالمكان الذي سوف تقابل به هذا الإسرائيلي ... ذهبت مي إلى المكان المتفق عليه والذي كان هادئا ولا يعج بالكثير من الناس وأعطت الملف إلى هذا الاسرائيلي الذي ابتسم برضا وهو ينظر إلى المعلومات التي بحوزته ولكن سرعان ما تلاشت ابتسامته عندما أتى الضباط من خلفه ووضع أحدهم يده على كتفه وهو يقول بنبرة ساخرة ومتهكمة:

-"أهلا بك يا حاييم كوهين".

انتفض حاييم بذعر ونظر حوله ورأى أن جميع رجاله وقعوا بين أيادي رجال المخابرات المصرية الذين ألقوا القبض عليهم جميعا ، وأخذوهم في سيارة خاصة وأخذوا مي في أخرى ، وكانت مي حينها تشعر بمزيج من المشاعر المتضاربة فقد كانت تشعر بالفخر تارة وبالخوف تارة أخرى ولكنها في كلتا الحالتين تأكدت بأن الله يحبها لأنه لم يجعلها تقع في بئر الخيانة وترتكب هذا الخطأ الشنيع وإلا كانت ستضيع كما ضاع غيرها بسبب جشعهم ورغبتهم في الحصول على الأموال.

وكما قال نيوتن في قانونه الثالث "لكل فعل رد فعل ، يساويه في الشدة ، ويعاكسه في الاتجاه" فهذا بالضبط ما جرى لمي فقد ألقي القبض عليها بتهمة قتل زوجها الراحل وهي الآن تنتظر موعد الجلسة التي ستحدد مصيرها بفارغ الصبر.

مرت الأيام بسرعة كبيرة حتى أتى يوم الجلسة ونقلت مي في سيارة الترحيلات إلى قاعة المحكمة ... اقترب مؤمن من القفص وهو يبتسم وقال:

-"لا تقلقي مي ... أؤكد لكِ أن هذا الكابوس المزعج سينتهي اليوم وستعودين إلى منزلك وعائلتك مرة أخرى".

ابتسمت مي بأمل:

-"أعلم ... رأيت البارحة في منامي أنني سأخرج اليوم من السجن وأحلامي تتحول دائما إلى حقيقة".

شعرت مي بالسعادة عندما رأت والدتها تدلف إلى القاعة وهذا يعني أنها تعافت وأصبحت على ما يرام.

هتفت والدتها بحنو:

-"اشتقت إليك يا صغيرتي".

-"وأنا أيضا اشتقت لكِ ماما".

قالتها "مي" والدموع تنحدر من مقلتيها ليهتف مؤمن بحدة مصطنعة:

-"لا أريد رؤية تلك الدموع مرة أخرى".

ابتسمت مي وأزالت دموعها قبل أن يدلف القاضي إلى القاعة فابتعد مؤمن عن القفص وجلس بين الحضور.

بدأت المرافعة وكما جرت العادة كان هناك شد وجذب بين جميع الأطراف سواء من جهة الدفاع أو من الجهات الأخرى إلى أن حسم محامي الدفاع الأمر وطلب من القاضي أن يستمع إلى الشاهد الذي سيغير مجرى القضية بأكملها.

اتسعت عينا مي بدهشة وهي ترى شريك أيمن وهو يسير نحو منصة الشهود ويردد القسم أمام القاضي.

وجهت بصرها نحو مؤمن الذي نظر إليها وهز رأسه وهو يبتسم فعلمت أنه هو من أقنع ذلك الرجل بأن يأتي إلى المحكمة ويشهد لصالحها.

انتهى شريك أيمن من نطق القسم وبدأ يسرد أمام الجميع حقيقة ما جرى قبل سنوات.

-"كنت في الماضي مجرد شاب مدلل ورث أموالا طائلة من والده الذي جعله يعتاد أن يحصل على كل شيء يريده دون أن يقيم اعتبارات لأي شيء".

تنهد بأسف ونظر أرضا وهو يستكمل:

-"لم أكن أكترث لأي شيء حولي فأنا كنت أريد أن أستمتع بكل شيء موجود في الحياة ومن ضمنهم النساء فقد كنت كغيري من الشباب الأثرياء أحب قضاء الأوقات برفقة الحسناوات دون أن أشعر بالحياء والخجل من تلك التصرفات الطائشة التي تقود صاحبها في النهاية إلى الهلاك".

رمقته "مي" بغيظ فهذا الرجل هو السبب الرئيسي في كل ما جرى لها ولكنها نفضت تلك الأفكار من رأسها وانتبهت له وهو يقول:

-"وفي أحد الأيام قابلت أيمن وأخبرني أن شركته على وشك الإفلاس فقررت أن أدعمه ولكن بعدما تأكدت أنني سأجني الكثير من وراء تلك الشراكة ... كان ذلك كل ما يهمني في البداية قبل أن أرى مي وأعجب بها ولأنني اعتدت على نيل كل شيء أريده أخبرت أيمن أنني أريده أن يحضرها إلى منزلي وإلا سأنهي شراكتي به".

سأله القاضي بجدية:

-"هل هذا كل ما لديك؟"

هز رأسه نفيا وهو يتابع:

-"تلقيت اتصالا من أيمن قبل وفاته يخبرني فيه بأنه سينفذ لي ما أريده وأنه سيحضر لي زوجته لأفعل بها ما أريد وأخبرني أنه سيتصل بي مرة أخرى حتى يخبرني بالوقت الذي ستحضر به مي وانتظرت منه أن يهاتفني كما وعدني ولكنه لم يفعل وعلمت بوفاته في اليوم التالي فشعرت بالخطر وسافرت للخارج".

هتف القاضي بخشونة وهو يهب واقفا:

-"الحكم بعد المداولة".

جلس القاضي بوقار على مقعده بعدما انتهت فترة المداولة التي استمرت لوقت طويل وتنهد قبل أن ينطق بالحكم الذي ترتب على الاستماع إلى شهادة ذلك الرجل ورؤية جميع الأدلة التي تثبت صدق مي وأن أيمن حاول إجبارها حقا على ارتكاب الفاحشة التي حرمها المولى عز وجل في كتابه العزيز وفي جميع الشرائع السماوية التي أنزلها من قبل:

-"حكمت المحكمة حضوريا على المتهمة مي عبد الرحيم بالبراءة ... رفعت الجلسة".

تهللت أسارير وجه مي وأطلقت والدتها أغرودة هاتفة بسعادة وهي تنظر إلى الأعلى:

-"الحمد والشكر لله".

مر أسبوع تلقت به "مي" العديد من المباركات بسبب حصولها على البراءة وفاجئها مؤمن بإحضاره المأذون الذي عقد قرانهما وسط بهجة أفراد العائلة التي طرقت الفرحة باب منزلهم بعد سلسلة من الأحداث القاسية والتي تركت أثرا عميقا في أنفسهم.

وقفت "مي" أمام المرآة تتأمل بسعادة هذا الفستان الذي أهداه لها مؤمن وتحدثت وهي تنظر إلى انعكاس شقيقتها في المرآة:

-"أخبريني بصراحة وجدية ... ما رأيك بالفستان؟"

-"تبدين جميلة للغاية ... الفستان رائع جدا يا عزيزتي ويناسبك كثيرا وكأنه صمم خصيصا ليكون لكِ ... يبدو أن مؤمن لديه ذوق رفيع في انتقاء الملابس".

قالتها إيمان بإعجاب واضح وهي تقترب من مي وتضع يدها على كتفها ... استكملت بسعادة وهي تملس على وجنتيها بلطف:

-"أدام الله سعادتك يا حبيبتي وأخيرا اقتربت اللحظة التي سنفرح بها ونقيم زفافك أنتِ ومؤمن".

-"لا أصدق أنني تجاوزت حقا تلك المحنة".

نطقت مي تلك العبارة وهي تدور بسعادة في جميع أرجاء غرفتها فقد انتهى أخيرا الكابوس الذي ظل ملازما لها لسنوات طويلة.

دلفت والدتها إلى الغرفة وأخبرتها أن مؤمن ووالدته بالخارج ويريدان رؤيتها فخرجت على الفور ولم تنتبه إلى أنها لا زالت ترتدي الفستان نفسه الذي أحضره لها مؤمن.

ابتسم مؤمن ما إن وقعت عينيه على الفستان هاتفا بمشاكسة:

-"لم أكن أعلم أنه سيكون جميل ورائع إلى تلك الدرجة عندما ترتديه".

أخفضت مي رأسها خجلا وتوردت وجنتيها ... لكزت سعاد مؤمن وهتفت بحدة ظاهرية:

-"احترم نفسك يا ولد ولا تحرج الفتاة".

رمق مؤمن والدته بغيظ مصطنع جعل الجميع يضحك بمرح على عبوس وجهه الذي يشبه الأطفال.

انقضت الأيام وتم الزفاف وحمدت مي الله لأنه عوضها بزوج محب ومخلص ويتفنن دائما في إسعادها وإرضائها وهو الأمر الذي لطالما ظنت أنها لن تناله أبدا.

أحيانا تضعكِ الحياة في مواقف تجعلك تسلكي طريقا خاطئا يؤدي بكِ إلى الهلاك ظنا منكِ أنه الأنسب لمعالجة مشاكلك.

كوني واثقة أن الحل الأنسب لمعالجة المشاكل هو بمواجهتها وتحمل عواقبها وليس بسلك طرق ملتوية تجعلك تسقطين في فخ الابتزاز الذي يكون بداية السقوط في هوة الجحيم.

-تمت بحمد الله-

1 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.